إنه التاجر الشاب سيدي محمد الذي كان يعد في يوم من الايام أحد أغنى أغنياء
الجالية الموريتانية في السنغال ثم افتقر بصورة مفاجئة وأصبح معدما خلال يوم واحد , ثم تداركته العناية الالهية بعد سنوات فعاد مجددا الى سابق عهده , بل صار أكثر غنىً وأوسع تجارة.
سيدي محمد بدأ حياته كباقي أقرانه في البادية بحفظ القرآن الكريم وكُتُب الفقه الميسرة "كالاخضري وابن عاشر" ومبادئ العقيدة الاشعرية , ولما بلغ العشرين من العمر انتقل كما يفعل مَن هم في سنه الى العمل "وكَـاف في بوتيكَـ" في السنغال لكنه ما لبث أن تفتقت عبقريته عن فكرة شراء الغنم في مواسم الاعياد وبيعها بأرباح مضاعفة , فكوّن رأس مال لا بأس به , وبدأت ثقة التجار ومُلاك الاغنام به تزداد ,خاصة أنه كان كريما وعلى خُلُق , مما ولّدَ انطباعا لدى الجميع بأن سيدي محمد في طريقه الى ان يكون سيد تجار الاغنام في عموم السنغال وموريتانيا.
اشترى دارا تتسع لكل ضيوفه , بها عدد كبير من الغرف والحمامات , وكان جل ضيوفه من تجار ورعاة الغنم الذين يفدون اليه من أقصى الشرق الموريتاني ووسطه ويبيعون له ثم يتولى هو توزيعا وبيعها في مختلف أسواق ومدن السنغال بينما يجلسون في داره معززين مكرمين حتى ينتهي من البيع ويعطيهم أموالهم ويزيدهم هدايا غالبا ما تتمثل في بعض الملابس الرجالية وملابس الاطفال والنساء لأسرهم.
مرت الايام , وسيدي محمد على هذا المنوال , والثقة فيه تزداد حتى أصبح ملاك وتجار الغنم يرسلونها اليه من انحاء موريتانيا مع رعاتها قبل كل موسم وبعد البيع يرسل لكل واحد منهم ثمن أغنامه , وفي السنة التي وقعت فيها مأساة الموريتانيين في السنغال , باع حوالي 1800 رأس من "الاكباش" في فترة رمضان وبقي البعض في انتظار عيد الفطر , لكن جميع الاموال التي كانت بحوزته وبقية الغنم ,كل ذلك ذهب بين عشية وضحاها , وتم تسفيره مع "المسفرين" ووصل الى العاصمة نواكشوط وهو لا يملك 20 اوقية.
كان معظم ملاك الاغنام كرماء معه , فلم يسألوه شيئا ولم يطالبوه بأي شيء خاصة أنه لا يملك الا نفسه التي بين جنبيه , وتدهورت حالته ـ حسبما يروي أحد الشهود "لوكالة الجواهر" ـ حتى شوهد هو وبناته في "ابراكَـ" في الكبة يتضورون جوعا.
لكن دوام الحال من المحال , كما يقول المثل , فقد علِم أحد أصدقائه القدماء بما آل اليه حاله ,فرَقَّ له قلبه وزاره في مكانه وعرض عليه أن يساعده بمبلغ ـ سلفا ـ ليعود الى نشاطه من جديد , فهو لا يتقن الا تجارة الحيوان , فوافق دون تردد.
ومن صباح اليوم التالي نزل الى "المربط" وما هي الا أشهر قليلة حتى انتقل الى الضفة الاخرى , الى السنغال التي يعرفها جيدا , كان هذا قبل 10 سنوات تقريبا , واليوم يعتبر من كبار التجار , وقد خصص جانبا كبيرا من أرباحه لشراء العقارات.
ومع تقدمه في العمر ما يزال يمارس نشاطه وهوايته في بيع وشراء الاغنام بهمة عالية , وعادت له ابتسامته التي انتزعتها منه سنوات الفقر والحاجة , لكنه في كِلا الحالتين كان راضيا قانعا محتسبا , فلم يُطغه المال , ولم يُدنس عرضه الفقر.